
المحتوى لا يعيش وحده.. كيف تضمن المؤسسات حياة رسائلها في عصر ما بعد الانتباه؟
في بيئة إعلامية تغمرها البيانات، وتتنافس فيها الرسائل على جزء من انتباه الجمهور، لم يعد كافيًا للمؤسسات أن “تنشر” محتوى جيدًا. بعد عام 2024، ومع تزايد تشبع الجمهور بالمحتوى عبر المنصات الرقمية، برز سؤال أكثر أهمية: كيف يمكن للمؤسسة أن تضمن أن رسائلها ستُسمع، وتُتداول، وتعيش؟
التحول لم يعد في نوع المحتوى فقط، بل في هندسة استمراريته.
من إنتاج الرسالة إلى رعايتها: المحتوى بوصفه كائنًا حيًا
في تقرير صادر عن Content Marketing Institute في يناير 2025، أشار 73% من المسوقين إلى أن أكبر تحدٍ في استراتيجياتهم لا يتعلق بصناعة المحتوى، بل بالحفاظ على تفاعله وانتشاره لأكثر من 48 ساعة بعد النشر. هذا التحول يعني أن المؤسسات بحاجة إلى رؤية المحتوى بوصفه “كائنًا حيًا” يحتاج إلى تغذية وتفعيل مستمر، لا مجرد حملة لحظية.
وفقًا لتحليل شركة BuzzSumo لعام 2025، فإن 83% من المقالات التي تحقق أكثر من 10 آلاف مشاركة عبر الشبكات الاجتماعية، تمت إعادة توزيعها عبر قنوات متعددة بعد تاريخ النشر الأساسي بمتوسط 5 مرات خلال أول 30 يومًا.
استراتيجية إعادة التدوير الذكية: المحتوى طويل النفس
أحد أهم التحولات التي تضمن استدامة الرسالة هو إعادة تدوير المحتوى بشكل ذكي. لا يعني هذا تكرار الرسالة بل تكييفها. على سبيل المثال، تقوم شركة Adobe بتحويل تقاريرها الطويلة إلى سلاسل فيديوهات قصيرة، ورسوم متحركة، ومنشورات تفاعلية على LinkedIn. هذا النهج يُعرف اليوم في أدبيات التسويق الرقمي باسم .Content Atomization
في دراسة حالة نشرتها HubSpot في فبراير 2025، وجدت أن الشركات التي تعيد تقديم محتواها الرئيسي بأربعة أشكال مختلفة (مقال، فيديو، إنفوجرافيك، بودكاست) تحقّق متوسط تفاعل أعلى بنسبة 67% مقارنة بالشركات التي تكتفي بالنشر النصي فقط.
المشاركة الداخلية أولًا: كيف تبني المؤسسات جمهورًا داخليًا قبل الخارجي؟
أظهرت تجربة قامت بها Accenture في بداية 2025 أن مشاركة الموظفين في نشر محتوى الشركة يزيد من معدل الوصول العضوي بنسبة 400%. المحتوى الذي يتم تفعيله داخليًا أولًا، من خلال سفراء العلامة أو القادة التنفيذيين، يمتلك فرصة أكبر للانتشار العضوي لأنه محمّل بصوت شخصي وموثوق.
ولهذا طورت شركات مثل “Salesforce” و”Cisco” منصات داخلية مخصصة لتوزيع محتوى جاهز للنشر بين الموظفين، بحيث يمكنهم مشاركته مع تعديلات شخصية، مما يخلق موجة أولى من الانكشاف تعزز من انتشار الرسائل في دوائر أوسع.
خوارزميات “ما بعد النشر”: أين تعيش الرسائل فعلًا؟
من أبرز التحديات الحديثة، أن الخوارزميات لا تتعامل مع توقيت النشر فقط، بل مع إشارات “النجاة الرقمية”. في تقرير نشرته “LinkedIn Marketing Solutions” في أبريل 2025، تم تحليل 12 ألف منشور عبر صفحات الشركات الكبرى، ووجد أن المشاركات التي تحظى بـ”موجات إعادة تفاعل” بعد 48 ساعة يتم إعادة رفعها تلقائيًا في خوارزميات التوزيع.
هذا دفع بعض المؤسسات إلى تطوير استراتيجيات تعتمد على إعادة التحفيز عبر قصص مرتبطة، أو تعليقات مجدولة لاحقًا، أو إشراك المؤثرين على دفعات. الفكرة لم تعد في النشر، بل في “التنقيط الذكي” للرسالة على طول خط الزمن الرقمي.
من الرسالة إلى الحوار: لماذا لا تنتهي القصة عند النقطة؟
في النهاية، الرسائل التي تعيش أطول ليست تلك التي تبدأ بصيغة رسمية وتنتهي بتوقيع إداري، بل التي تُحفّز التفاعل، وتطرح تساؤلًا، وتدعو المتلقّي ليكون جزءًا من القصة. هذا ما أظهره تقرير منصة إيدلمان للثقة لعام 2025 “Edelman Trust Barometer 2025”، والتي بيّنت أن المحتوى الذي يحتوي على استبيانات، أو روابط تفاعلية، أو دعوات لحوار مجتمعي، يحقق تفاعلًا بزيادة 58% عن المحتوى أحادي الاتجاه.
ختامًا، في عالم تتراجع فيه فترات الانتباه، وتتنافس فيه الرسائل على حيز ضيق من التفاعل، لا تعيش الرسائل بالنية أو الجودة فقط، بل بالخطة التي تُرافقها بعد النشر.
المحتوى الجيد يُنتَج، لكن الرسالة الفعّالة تُدار، وتُغذّى، وتُروى. فإذا أردت لرسالتك أن تعيش، لا تكتفِ بنشرها. اعتنِ بها.