تواصل معنا

مصر- الدقهلية، المنصورة، 5شارع السكة القديمة، الدور الثالث

متوفرون على مدار الساعة كل الأسبوع 24/7 تواصل معنا +20 10 91094492 twaasooleg@twaasool.com

من البيانات الصحفية إلى خوارزميات الجمهور.. من يكتب الرسالة؟

في عالم يشهد تحولات متسارعة في البنية الاتصالية، لم تعد الرسائل الإعلامية تُصاغ فقط خلف مكاتب المتحدثين الرسميين أو داخل غرف التحرير التقليدية. بل إننا نعيش اليوم عصرًا تتشارك فيه الخوارزميات الذكية مع المحررين في صناعة المحتوى، وتوجيهه، بل والتحكم في وقعه على الجمهور. هذا التحول لا يقتصر على الأدوات، بل يمتد إلى بنية القرار الإعلامي ذاته: من يقرر ما يجب أن يُقال؟ وكيف؟ ولمن؟
لقد تغيّرت قواعد اللعبة. فبعد أن كانت البيانات الصحفية تمثّل نقطة الانطلاق شبه الحصرية في بناء الرسائل الإعلامية، دخلت نماذج التعلم الآلي والخوارزميات التنبؤية كلاعب رئيسي، قادرة على تفسير السلوك الجماهيري لحظة بلحظة، وتكييف المحتوى وفقًا لذلك. هذه الديناميكية الجديدة تعيد تشكيل العلاقة بين الصحافة، الجمهور، والتكنولوجيا، وتدفعنا لإعادة التفكير في طبيعة التأثير الإعلامي وحدود المهنية الصحفية في عصر تُكتب فيه الرسائل لمنصات قبل أن تُقرأ من بشر.

التحول من البيانات الصحفية إلى الخوارزميات

لم تكن البيانات الصحفية يومًا مجرد وسيلة لتوزيع الأخبار، بل كانت أداة استراتيجية تمكّن المؤسسات من ضبط رسائلها، والتحكم في توقيت ومحتوى ما يُنشر عنها. هذه البيانات، التي كانت تُحرر بعناية ضمن معايير واضحة، ضمنت لسنوات تدفقًا مستقرًا ومنضبطًا للمعلومات. لكن هذه السيطرة بدأت تتآكل مع صعود الأدوات الرقمية التي لا تنتظر نشرًا رسميًا بل تبحث عن الحدث في لحظته، وتبني حوله سردية تلقائية بناءً على تفاعلات الجمهور.
وفقًا لتقرير معهد رويترز (2024)، فإن 67% من مديري غرف الأخبار في 53 دولة أقروا باستخدامهم أدوات الذكاء الاصطناعي في إدارة المحتوى وتوزيعه. هذه النسبة تعكس انتقالًا واضحًا من الصحافة المُخططة إلى المحتوى المُنتج بفعل خوارزميات تحليل البيانات الكبيرة. فبدلًا من سؤال “ما هي رسالتنا؟”، أصبح السؤال الأكثر تداولًا: “ما الذي يريد الجمهور سماعه؟”.
وتكمن المفارقة في أن هذه الخوارزميات لا تكتب فقط، بل تقرر – بشكل غير مباشر – ماهية الرسائل التي تكتسب الأولوية، وما الذي يتم تجاهله أو تقزيمه. وهنا يتغيّر مفهوم المسؤولية التحريرية من كونه قرارًا بشريًا صرفًا، إلى معادلة حسابية مبرمجة مسبقًا.

تأثير الخوارزميات على تشكيل الرسائل الإعلامية

إن الخوارزميات المصممة لتحليل سلوك الجمهور لا تراقب فقط ما يفضّله الأفراد، بل تبني أنماطًا سلوكية دقيقة تُغذي بها توصياتها التحريرية. وبدلاً من تقديم رسالة جامعة، تُصمّم هذه الأنظمة رسائل متفرعة مخصصة لكل فئة سلوكية، مما يُعيد صياغة وظيفة الإعلام من تقديم “حقيقة عامة” إلى تلبية رغبات متباينة قد لا تلتقي أبدًا.
تقرير جامعة نورث وسترن (2023) أشار إلى أن الخوارزميات تستغل قابلية الإنسان للتعلم من أقرانه، ما يعزز من فعالية المعلومات المضللة إذا كانت متداولة ضمن شبكات الثقة الاجتماعية. في هذه البيئة، تتحول الرسالة الإعلامية من منتج تحريري إلى انعكاس لسلوك المستخدمين أنفسهم.
لكن الأخطر من ذلك أن هذه الآليات تُنتج فقاعات معلوماتية، حيث ينغلق كل جمهور داخل دائرة تفضيلاته، فلا يسمع إلا ما يعزّز قناعاته. هذا الانغلاق لا يُضعف فقط الحوار العام، بل يُقلص من قدرة الإعلام على أداء دوره. التنويري، وهو ما يضع المنظومة الإعلامية أمام تحدٍ مزدوج: كيف تحافظ على المهنية في عصر التخصيص الزائد؟

التحديات والاعتبارات المستقبلية

أحد أكبر التحديات الناشئة عن هذا التحول هو مسألة الشفافية. إذا كانت الرسائل تُبنى وفقًا لخوارزميات غير مفهومة أو قابلة للتتبع، فمن يُحاسب على الأخطاء أو التحيزات؟ دراسة نُشرت في SAGE Journals (سبتمبر 2024) أظهرت أن غالبية الجمهور لا يثق في الأخبار المنتَجة آليًا، خاصةً في الأوقات الحساسة كالأزمات السياسية أو الصحية.
كما أن الذكاء الاصطناعي لا يزال يفتقر إلى الحس الثقافي والسياقي، مما يؤدي أحيانًا إلى رسائل غير متجانسة أو مُسيئة دون قصد. وهنا تبرز الحاجة إلى ميثاق تحريري جديد يُعيد توزيع المسؤوليات بين البشر والخوارزميات، ويضمن أن الذكاء الاصطناعي يُستخدم كأداة دعم، لا ككاتب بديل.
الاعتبار الآخر يتعلق بالعدالة المعلوماتية. هل يحصل الجميع على نفس جودة الرسالة؟ أم أن من يملك بيانات أكثر دقة هو من يستقبل الرسائل الأكثر تخصيصًا وتأثيرًا؟ الإجابة هنا تحدد مستقبل العلاقة بين الإعلام والجمهور، وتضع حدودًا جديدة لسلطة الصحافة.

من البيان الصحفي الذي كان يُكتب بصوت المؤسسة، إلى الخوارزميات التي تُنتج الرسالة بذكاء معزول عن القصد البشري، يتغير مفهوم “من يكتب الرسالة؟” بوتيرة مذهلة. هذه التغيرات تفرض على منظومة الإعلام والعلاقات العامة إعادة التفكير في أدواتها، وأساليب تعاملها مع الجمهور، وتوازنها بين المهنية التقنية والواجب الأخلاقي. فالسؤال لم يعد كيف نصل للجمهور، بل كيف نحمي الرسالة من أن تصبح مجرد صدى لما تقرره الخوارزميات؟

 

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *